رحل عنَّا أحمد … لكن ذكراه العطرة باقية معنا

صبيحة يوم الثلاثاء 14/4/2015 توفي صديقنا وزميلنا أحمد محمد صالح، الذي لازمنا ولازمناه، وزاملنا وزاملناه عقودا من الزمن، مضى منها أكثر مما تبقى، وووري جثمانه الثرى يوم الجمعة الموافق 17/4/2015، بعد أن تمت الصلاة عليه في مسجد مدينته التي أحبها أحمد وأحبه أهلها، مدينة أوبسالا، ويرقد جثمانه في مقبرة المسلمين في تلك المدينة الوادعة والتاريخية، التي تعتبر العاصمة التاريخية لمملكة السويد، وفيها توجد أعرق جامعة في أروبا، حيث يختلف المؤرخون إن كانت هي أم جامعة باريس الأقدم في أروبا. كما تحظى هذه المدينة التاريخية بأهمية، باعتبار أنها مقر لعدد من المؤسسات السويدية الهامة.

وفي التأبين الذي جرى بعد الدفن، والذي تم بإشراف، ومشاركة، ودعم أبناء الجاليتين الإرترية والسودانية، تتالى المتحدثون على ذكر مناقب أحمد الحميدة، والتي أجمع خلالها المتحدثون على أن أحمد كان يتمتع بالكثير من الصفات الطيبة. وفي اختصار لأهم  ماتناوله المتحدثون من الصفات الطيبة سأحاول أن أركز على أهم ما قيل في هذه المناسبة سيرًا على نهج التركيز على أهمية ماقيل، بدل التركيز على  أهمية القائل:

    * أجمع المتحدثون تقريبًا على الخصال النبيلة التي كان يتمتع بها أحمد من سعة صدر، وحب الخير للناس، والابتسامة العريضة التي لاتفارق محياه، وصبره الجلد على المرض الذي امتحن وابتلي به أحمد، وأثبت أنه كان أقوى من المرض، وأنه لم يشتك يوما لأحد من هذا المرض الخبيث الذي ألم به ولم يتذمر، ولم يكن يتحدث عنه كثيرًا، على الإطلاق، إلا في حدود الحديث مع الأطباء، أو تبعات العلاجات القوية التي كان يأخذها أحيانًا، وحتى في حديثه عن هذه الأمور، كان يتحدث عنها وكأنها معاناة شخص آخر بحيادية، وهدوء نفس، وجلد، اتفق الحاضرون على أنها من الحالات النادرة.

    * ظل أحمد طوال فترة مرضه هذه، منذ اكتشاف المرض الخبيث وحتى إجراء العملية الجراحية، وبعد إجراء العملية الجراحية في الدماغ هادئًا، وديعًا، بشوشًا، يستقبل زواره بحب، ودفءٍ إنساني قل مثيله، ويسأل عن أحوال الناس وصحتهم وأسرهم وكأنه هو الزائر وليس المريض الذي يعوده الناس ليطمئنوا على أحواله.

    * اتفق المتحدثون على شخصية أحمد الراقية والرائعة والتي بفقدها ستترك فراغًا إنسانيًّا وعاطفيًّا لكل من عرف أحمد عن قرب، فأحمد الإنسان، وأحمد الصديق، وأحمد الأب، وأحمد السياسي، وأحمد الاجتماعي، وأحمد ذو الأهتمامات الثقافية المتنوعة هو فقد إنساني، ومشاركاته، ومساهماته، وأراؤه كانت هامة، وتحظى باحترام وتقدير الكثيرين الذين أكدوا على أنها كانت متميزة ونوعية، وبغياب أحمد عن ساحات العمل العام، وساحات العطاء يخسر الناس، وتغيب عنهم كل هذه الإسهامات النوعية.

    * في مناقشاته لمختلف الموضوعات كان أحمد ثاقب البصيرة، وكان غيورًا على الإسلام والمسلمين، وكان أحمد يردد دومًا خوفه وقلقه على مصير المسلمين الإرتريين، الذي كان يصف حالهم بعبارة مفضلة لديه وظل يرددها، وهي أنهم أشبه “بالأيتام في موائد اللئام”، مهضومي الحقوق، ولم يمنحهم الله قيادات وتنظيمات تحمل همهومهم الحقيقة، وتسعى إلى إنقاذهم من هذا التردي الذي وصلت إليه أوضاعهم.

    * أما بالنسبة لاهتماماته الاجتماعية والثقافية، كان أحمد مهمومًا بموضوع الهوية، ومنح للجانب السوداني في هويته هو، ولعلاقة الشعبين السوداني والإرتري، حيزًا كبيرًا من اهتمامه وحديثه، وكان هو بسلوكه الاجتماعي والثقافي عبارة عن جسر تواصل بين هذين الشعبين، وهاتين الثقافتين، وتجلى ذلك بوضوح في تأبينه، حيث كان من الصعب فصل هذا التلاحم الذي جسده أحباء وأصدقاء أحمد من السودانيين والإرتريين والذي نادرًا مايتوفر لأي شخص، وخاصة في التأبين، كما تجسد ذلك في تأبين أحمد محمد صالح، ورحيل أحمد هو خسارة للإرتريين والسودانين في السويد عمومًا، وأوبسالا على وجه الخصوص.

    * ظل أحمد يتحدث طوال فترة مرضه عن طبع كتاب يؤرخ للعلاقة السودانية الإرترية، من خلال تاريخ تواجد الأسر الإرترية في قلب المجتمع السوداني، متلاحمين ومتفاعلين معه في أفراحه وأتراحه. وكان أحمد يحلم في أن يساهم عدد من أبناء الأسر السودانية من ذوي الأصول الإرترية، وعلى رأسها أسرته هو، في أن يؤرخوا لهذا التواجد الإرتري القديم والأصيل من خلال سرد حكاياتهم. آمل أن يرى هذا المشروع النور، وقد ترك أحمد شيئًا مكتوبًا يحكي فيه هو عن أسرته، آملًا في  أن يساهم  الآخرون بإكمال هذه الحكاية، وأتمنى أن يتحمس لهذا المشروع عدد من أبناء هذه الأسر في القضارف وكسلا لسرد حكاياتهم كل من زاويته لتكتمل الصورة، إكراما لأحمد الذي شغل هذا الموضوع باله طوال فترة مرضه. ولحساسية هذا الموضوع بالنسبة للبعض، يمكن استخدام بعض الأسر أسماء مستعارة إن أرادو ذلك، لكن أهمية أن تسرد هذه الحكايات هو عمل إنساني هام ينبغي أن يؤرخ فيه الأبناء لهذه الرحلة التي خاضها أباؤهم وأمهاتهم، وأجدادهم وجداتهم.

 

أعذروني أيها الأصدقاء على عدم القدرة على تناول كافة الموضوعات التي أثيرت، فذلك فوق قدرتي لاختزاله في مثل  هذا التقرير، لكن الحديث عن شخصية أحمد وتجاربنا المشتركة ميدان خصب يمكن للإنسان أن يكتب عنه أشياء وأشياء. عزائي للسيدة الوالدة جدة محمد عبد الله ابراهيم، ولأشقائه بدر، وقاسم، ونادية، وأحلام، ومنى، وياسر، وعبد الرحيم، ولإخوته فيصل، وسمية، وجمال، وخالد، ووفاء، ومعاذ، ولابنته سهيلة، ولحرمه السيدة أم يامن نجاة، ولطفليه يامن وسدرة المنتهى، ولكل الأهل والأقارب.

وأخيرًا من لا يشكر الناس لا يشكر الله، فالشكر كل الشكر للأخ محمد الحسن عبد الله إزوز، والأخ عبد الرحيم الحاج علي وغيرهم من الإخوة الأرتريين الذين وقفوا مع أحمد وأسرته وقفة رائعة، ومن الإخوة السودانيين أخص بالذكر دكتور بابكر العبيد، وعلي حمد النيل، ودكتور معاوية، ومحمد طه وغيرهم كثر، والشكر موصول أيضًا لأبناء الجاليتين الإرترية والسودانية الذين وحدهم التاريخ ووحدتهم الجغرافيا، وكان أحمد محمد صالح الكتاب الذي تم فيه تسطير ورسم هذا التاريخ وهذه الجغرافيا.

 

زين العابدين شوكاي
السويد – ستوكهولم
18/4/2015

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=34401

نشرت بواسطة في أبريل 30 2015 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

3 تعليقات لـ “رحل عنَّا أحمد … لكن ذكراه العطرة باقية معنا”

  1. ابوصالح

    نعم اخي ابو انس كل ماذكرته عن المرحوم الاستاذ احمد محمد صالح حقايق ولولانك لم تريد الطناب لقلت الكثير الكثير الذي يستحقه منا رحمه الله وانت الصيدق الذي يعلم عنه الكثير.اللهم الرحمه واغفر له والقثله بالماء والثلج والربد وبارك في نصله وصبر اهله.كماعزي اهل محمدصالح في الوطن والمهجر وانا لله وانا اليه راجعون.سليمان صالح(اكد)

  2. منى محمود

    الغياب هو أن تبحث عن صدى صوتك في ذاكرة الآخرين .. الود أقصاه لك أخي الزين لقد وجد أحمد صدى في مقالك الرزين هذا يا زين عنه بأن الرحيل فرض عين لهروب الروح من الجسد وان الأصدقاء يجتمعون على الإلفة والمحبة في ميزان هذه الفانية .. شكرا دعوتني لأكتب في غياب أحمد محمد صالح غيابا لا نملك له ردا أو هروبا .. لقد هزم أبو سهيله الموت وهو حي يرزق كعادته مبتسما بعرض الابتسامه وهو في الانحناء الأخير .. غيابه فاجعة كبيرة لكل من عرف أحمد .. ولكل شخص منا حكاية عن أحمد كامل البهاء لقد أسقط مقالك هذا أقنعة الحزن عنا ليرى أحمد مسادير الوداع الصادق يا زين الأصدقاء
    اللهم ارحمه برحمتك الواسعة واغفر ذنبه ووسع مدخله .. اللهم اجعل قبره روض من رياض الجنه

  3. اللهم اغفر له و ارحمه رحمة واسعة و تقبله قبول حسن و اكرم نزله في العليين مع الانبياء و الصديقين و الشهداء و الصالحين وحسن اولئك رفيقاً00

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010