مدرسة النُّقرة للتعليم والتنمية !

بقلم/ محمد آدم حاجى محمد

نقرانا التى تختزن ذاكرتنا الجماعية؛ لأجيال متعاقبة، وتسكن وجداننا الجماعى؛ كانت اشبه بخلية نحل نشطة تدب بالحيوية والنشاط فى ميادين العمل الوطنى كافة؛ وخاصة ميدان تنمية الموارد البشرية، وصقل المواهب . كانت على الدوام تعمل بروح الفريق الواحد؛ وتتماهى مع روح الابداع والتحدى السائدة فى ارتريا؛ اذ كانت بحق منظماتنا الشعبية تمثل سندا قويا لثورتنا تواكب بجدية وحماس مجريات الصراع المحموم فى مراحل مده وجزره . وتعمل وفق برامج عمل شعبى يعزز من كفاءة المساهمة العملية لعجلة النضال الوطنى المتصاعد دوما . فكم من هنا.. من رواد ورائدات النقرة  تم اعادة تأهيله فى برامج محو الامية المكثفة والمستمرة؛ وخاصة عاملات المنازل دون فرز تنظيمى وحتى دون تمييز بين الإرتريات والإثيوبيات و ” التجراويات ” منهن بشكل خاص ! فقد إرتقت كثيرات منهن الى مستويات متقدمة فى التعليم الأكاديمى، أو المهنى .. وتبوأن مراكز عليا فى سلك الوظائف المدنية بالدولة الوليدة أو بالشركات الخاصة أو على مستوى قيادة المنظمات الشعبية .. وأذكرمن بين مئات الناجحات محين اميتهن، واكملن التعليم الجامعى أو المهنى واحرزنا تقدما وظيفيا؛ ومن هؤلاء :

1- ألم يمانى – بدأت التعليم بالنقرة ثم التحقت بالجيش الشعبى؛ وبعد التحرير إستأنفت تعليمها؛ فانتسبت بجامعة اسمرا وتخرجت منها بدرجة البكلوريوس !! .

2 – ترحاس ابرها – هى الاخرى بدأت التعليم بالنقرة  وأكملت ما يوازى التعليم الثانوى ثم إلتحقت بمعهد فنى وتخرجت منه بشهادة مهنية معترف بها من الجهات المختصة بدولة الكويت .. مما أهلها للعمل سكرتيرة ناجحة؛ وبفضلها عملت بكبرى شركات السياحة والسفر بالكويت ثم بالامارات العربية المتحدة وربما الآن ببريطانية؛ لأنها تجيد اللغتين العربية ولإنجليزة !! .

3 – نزهتى إستفانوس – هى الأخرى تتلمذت بالنقرة وحققت تقدما جيدا فى التعليم وانتخبت عضوا فى المجلس المركزى للإتحاد الوطنى للمرأة الإرترية ثم تدرجت فى شغل الوظائف المدنية بالدولة حتى وصلت الى منصب مدير عام فى أكثر من وزارة !! .

ولايفوتنى فى هذا المجال، وأنا اروي قصص النجاح فى النقرة؛ ان أعيد التذكير بدرس بليغ تعلمناه مبكرا ونحن فى بداية عملنا فى مكافحة الأمية والقصة هى : ” ان إمرأة مسنة أختيرت بالإنتخاب رئيسا لفرع الإتحاد الوطنى للمرأة الإرترية بالكويت؛ وكانت امية تماما؛ وصادف فى بداية دورتها الإنتخابية حلول مناسبة الثامن من مارس لعام 1978م  وكان يومئذ المهندس الجيولوجى المناضل هيلى ولدى تنسائى مسؤولا للإدارة الشعبية منتدبا من الميدان، وهوخريج جامعى من كندا. فالمهندس هيلى أعد للرئيسة المنتخبة – روما قبرى إزقى – كلمة حماسية بالمناسبة النسوية؛ لتلقيها الرئيسة على الجمهور المحتشد بقاعة المقر المزدحمة بالرجال والنساء على السواء؛ ولما كانت المرأة أمية، ولم يسبق لها أن خاطبت حشدا من الناس فى مكان عام؛ فتعثرت  فى إلقاء الكلمة، وغشاها الخجل وخنقتها العبرة؛ فوقف الحضور بالتصفيق الحار لها ! واعانها هيلى الواقف خلفها؛ فتشجعت .. وبشئ من التهجى وراء ه  اكملت كلمتها مبتسمة.. !!. ” ومن تلك اللحظة الفارقة فى حياتها عقدت المرأة العزم لإعادة تأهيل نفسها .. وفى العام التالى القت كلمتها بثقة وبلا تلعثم أو الإرتباك !! . وكانت هذه الواقعة الفارقة درسا عمليا مشجعا لنا جميعا؛ لنمضى بثقة فى مجهود التنمية البشرية ولاسيما فى مجال محو الأمية الذى لمسنا نتائجه المبشرة بشكل سريع وعملى !!.

لعب الطلاب؛ أعضاء الإتحاد الوطنى لطلبة إرترية – فرع الكويت – دورا محويا فى مكافحة الأمية بإلتزام ووفاء مشهودين، وبروح وطنية مسؤولة تتماهى بصوفية وطنية بروح المقاتل الذى يشد على الزناد . ولا أنسى وان استذكر ما كنت شاهدا عليه؛ ان اذكر الإلتزام الطوعى للأخ أحمد سالم الذى كان تماهيه بروح الشهداء فريدا من نوعه . ففى ذات يوم من عام 1978م قابلته فى وقت الظهيرة من شهر يوليو القائظ بمجمع البصات بالمرقاب متجها الى النقرة؛ لأداء درسه الأسبوعى . وكان متجهما تكسو وجهه سحابة حزن عميق؛ فسالته عن سبب تجهمه، وعما اصابه من مصاب جلل؛ ولكنه امتنع ان يخبرنى سبب حزنه الواضح .. وأصريت عليه معاتبا ان لا يخفى عنى سر حزنه الأليم .. وضغطت عليه بشدة مستخدما كل الحيل ليبوح لى بسره الدفين .. وكان أحمد يمانع الكلام؛ ويطرق برأسه الى الأرض يذرف الدمع حزينا، ويواري عنى دموعه الحارة؛ وانا أترجاه وألح عليه بالرجاء .. وفجأة رفع رأسه يخاطبنى والعبرة تخنق صوته فائلا : ” أستحلفك بدم الشهداء ان لاتبوح بسر استشهاد ( الرفيق محمد على سالم ) ..!!؟  ”  وكان وقع الخبر المفجع فى نفسى مؤلما .. وهزنى هزا عنيفا، وكدت اجهش بالبكاء .. لأنى كنت اعرف ان الشهيد شقيقه الأكبر، وكان قريبا الى نفسه ومعجبا به ويتخذه قدوته .. وبدورى كنت اعرف قدرا يسيرا من سيرة محمد على سالم فى التنفانى ونكران الذات وكيف انه وُضع ذات مرة امام خيارين لاثالث لهما : إما ان يربى عياله فى مناطق اللاجئين؛ أو ان يبقى مقاتلا حتى التحرير أو الإستشهاد؛ فاختار الشهادة بوعى ودراية تامة .. وفى تلك اللحظة الأليمة اردت ان أواسي  أحمد وأخفف عنه الم الفقد؛ ولم اجد وسيلة غير ان أحاول تكذيب النبأ .. وهو لم يهتم بمحاولاتى اليائسة لتكذيب النبأ المفجع .. وبشكل قاطع اكد لى قائلا : ” قبل دقائق معدودات كنت بمكتبنا فى عمارة الثوينى بالصفاة، وسمعت مسؤول المكتب الأخ محمد على الأمين يسأل عن اطفال الشهيد ويهم عن سبيل كيف يصل اليهم فى مناطق اللأجئين بالسودان .. وكان يحكى أن الرفيق الأمين العام المساعد قد اخبره بإستشهاد محمد على سالم واوصاه بشدة أن يبذل جهده لأستقدام أطفال الشهيد الثلاث على المنح الدراسية المقدمة من دولة الكويت .. والرجل لا يعرف صلتى بالشهيد .. كان يروى الحقيقة كما سمعها من أعلى مصدر قيادى بالتنظيم .. وأنا قد تيقنت بأن اخى ادى واجبه؛ ودفع دينه الوطنى كاملا، ولحق بقافلة الشهداء الذين سبقوه؛ وكم منهم واراه التراب على طريقة : إنتبه .. استعد .. وقفة حداد على أرواح الشهداء .. النصر للجماهير ..!! ” والنصر للجماهير تعنى أمرا عسكريا بالإنتشار .. وفى لحظة سريعة كالبرق ينصرف المشيعون ليؤدى كل واحد واجبه فى الدفاع أو الهجود .. وبنفس الطريقة ودعوه رفاقه وإنصرفوا الى أعمالهم القتالية يصدون بصدورهم جحافل الغزاة الطامعين .. ونحن – انا وانت – ينبغى ان نودع شهيدنا – محمد على سالم – بنفس طريقته وننصرف لأداء واجبنا المتواضع .. ويكفينا إلى هذا الحد من ألم الحزن والحسرة .. فهيا بنا .. لقد حانت ساعة حصتى الأسبوعية لخلية يوم الثلاثاء .. والعاملات الطالبات ينتظرننى ..!؟؟ ” وفى الحال ودعنى أحمد وانطلق على متن بص رقم 17 الى النقرة ليؤدى واجبه المقدس فى التعليم الهادف الى التنمية البشرية.. !.

إبتلع أحمد مرارة حزنه ولم يضعف ابدا .. ولم يتهافت لإغتنام فرصة إستقدام أبناء أخيه الي الكويت وهى فرصة هبطت اليه من السماء ولم يسع اليها متوددا الى المسؤول من وراء الكواليس كما كان متبعا فى ذلك الوقت .. كان غيره يريق لها ماء وجهه يُحابى المسؤول ويتزلف اليه عله يرضى عنه ويتكرم عليه بمنحة دراسية لذويه دون الاخرين ! .  وأما أحمد فترك الأمر يأخذ مجراه التنظيمى حسب القنوات التنظيمية المقيدة بلوائح الإتحاد وقراراته؛ فلم يكشف للمسؤول عن هويته بأنه  شقيق الشهيد الذى يسأل عن معين يساعده لإستقدام أطفاله من مناطق اللاجئين بالسودان .. لأن أحمد ابى ان يُخْدش نقاءه الثورى بلوثة شُبْة المحسوبية؛ وهى كانت آفة ذميمة شائعة وخاصة فى توزيع المنح الدراسية على مستوى المكاتب الخارجية للثورة الإرترية، وهو كان من اشد الناس مقاومة للمحسوبيات وكل اشكال الفساد المالى او الإدارى .. !!.

عزوف أحمد سالم وترفعه عن استغلال الفرص المتاحة خارج نطاق اللوائح والنظم، وتفانيه فى أداء الواجب تحت اصعب الظروف .. كانت تلك عقيدته وعقيدة كل فريق النقرة فى العمل بالتفانى والنزاهة .. !! .

Ghadam61@yahoo.com

يتبع

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=35197

نشرت بواسطة في أغسطس 23 2015 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

1 تعليق لـ “مدرسة النُّقرة للتعليم والتنمية !”

  1. أخي العزيز محمد أدم، في البداية – ماشاء الله – اسمح لي أن أهنئك على هذه الذاكرة التي تحتفظ بأدق التفاصيل، و تسرد الأحداث وكأنها وقعت اليوم، ثم أشكرك جدا جدا، لأنك نشطت ذاكرتي و عدت بي الى السبعينيات – 35 عاما الى الوراء – وكأني أعيد مشاهدة فيلم عايشته بكل انفعلاته و أحداثه.
    حقا هذا المكان(النقرة) كان ممرا، مقرا، ملجأ لكل مكروب و فوق كل ذلك كان مدرسة ينهل منها حب الوطن بكل صفاء و يتعلم فيها التفاني و الاخلاص للمبادئ.
    أوائل من مروا به وسكنوه، هم جرحى حرب التحريرالأبطال، أمثال المناضل ادريس أبعري (ربنا يفك أسره) و المناضل الملقب رشايده (أأسف لعدم تذكر اسمه الحقيقي) و غيرهم كثر، لذلك ليس غريبا أن يصمد هذا المبنى و يتحدى عوامل الطبيعة و كل التغييرات التي حدثت حوله – كما لو أنه استمد من أبطالنا الأشاوس، روح الصمود و التحدي.
    هو المكان الذي مارسنا فيه لعبة الديمقراطية في نطاقها المتواضع – في الترشح، في المحاسبة، و في التصويت العلني و السري … الخ، في اطار فروع اتحاداتنا الوطنية – لو كتب الاستمرار لهذه الممارسات، لأزهرت وازدهرت في ربوع و طننا الحبيب، الا أن عشاق الظلام وأدوا هذه التجربة في مهدها بتجميد الاتحادات الوطنية، بعام قبل التحرير، تمهيدا ليصلوا بنا الى ما وصل اليه حال البلاد و العباد. تشهد زواياه المختلفة حواراتنا و نقاشاتنا عن هم الوطن، خاصة ما بعد المؤتمر التنظيمي الثاني – توجسنا و خوفنا من المستقبل المظلم الذي تنبأنا به على الرغم من مفاهيمنا المتواضعة انذاك.
    أكتفي بهذا القدر في الوقت الحاضر و أشكركم أنت و البراعم، ربنا يحفظهن و يوفقهن في الدراسة و الحياة انشاء الله – مثلتم الغائبين منا خير تمثيل بهذه الوقفة النبيلة في أداء تحية الوداع لهذا المقر التأريخي، كما لا يفوتني هنا أن أشكر دولة الكويت أميرا وحكومة وشعبا لما قدموه لشعبنا أبان حرب التحرير و ننتظر منهم مواقف مناصرة لشعبنا المنكوب في محنته الجديدة.

    عبدالله

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010