مغزى العبادات في شرعة الإسلام

د.أبوجعفر

لما كانت شرعة الإسلام كلمة الله الأخيرة لإصلاح عباده في الأرض إلى يوم الدين تميزت بسهولة السياق وجماله نصا ومفردة تلامس الأفهام دراية دون مشقة أو عناء وبالمعقولية معنى وحكما وباليسر تكليفا وبالاستطاعة التزاما وأداءً وبرفع الحرج سماحة ويسرا وبالمرونة تنزيلا وتطبيقا وبالقدرة التامة على مواكبة قضايا العصر ونوازله المتجددة تشريعا يسع ويستوعب كل ما استجد من شأن في مسيرة الحياة مما يتصل بتنظيم شئون العباد فيما يتحقق به مصالح دينهم ودنياهم من تدبير وبذلك استحقت الشريعة الإسلامية وسام الريادة وسمة الخلود وخاصية الظهور فظلت مهيمنة على ما سبقها من أديان وشرائع أصالة دون شك وبذلك كان دين الإسلام مصدر التشريع الهادي لكافة أفراد النوع البشري إلى صراط الله المستقيم وقائدهم إلى مراقي النجاح في معارف علوم الدنيا وزينتها وسبيل نجاتهم للفوز بذخر نعيم  حياتهم الأخرى .

وقد شرعت العبادات في الإسلام لغايات سامية ومن خاصيتها أنها قد تعددت كَمًا وتنوعت شكلا وأداءً وتجددت زمانا وعظمت مقاما وسمت مكانا وتفاوتت مثوبة وأجرا وإن توحدت مضمونا وهدفا وغاية ومن أجل مقاصدها رتبة توخي إصلاح النّفوس وحفظها في عالم الشهادة بتهذيب الأخلاق،وتقويم السلوك هداية لنيل أسمى الدرجات العلية وأرفع منازل الرتب الزهية في عالم الغيب الموعود ولقد ندب الباري العباد أن يأخذوا بكافة ما نزل إليهم من ربهم فينزجروا عن جميع مناهيه كَفًا ويمتثلوا أوامره إتيانا قياما بما كلفوا به من عبادات شتى، قال تعالى : ({ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)} [البقرة / 207 – 209) وغاية شّعائر الإسلام المجيد أنها تهدف لسوق العباد إلى اللّه  سبحانه عبر إقبال القلوب وسائر الجوارح إليه في استقامة تآمة باطناً وظاهراً تحقيقاً لوظيفة العبوديَّة التّي خلقوا من أجلها ، وقد بين العلماء والعارفين أن العبادات البدنيَّة وإن كان لا يلوح في كثير منها معنى مخصوص إلا أنها يتخيل فيها أمور كليَّة تحمل عليها المثابرة على وظائف الخيرات ومجاذبة القلوب بذكر اللّه تعالى تجديدا للعهد والغض من العلو في مطالب الدّنيا، والاستئناس بالاستعداد للعقبى .

ويعتبر صيام شهر رمضان من الأركان الخمسة التي بني عليها صرح الإسلام الشامخ وقد جاء في صحيح الإمام البخاري رحمه الله  من حديث عبد الله بن عُمَرَ رضي الله عنهما قال :  قال : رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( بُنِيَ الْإِسْلَامُ على خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إلا الله وَأَنَّ مُحَمَّدًا رسول اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَصَوْمِ رَمَضَان) البخاري: 1 / 12.  وهو من أعظم مواسم الخيرات المتجددة كل عام مرة وقد جعل من فاضل الأزمان عبادة حيث نزول الرحمات وشمول البركات لمن يتعرض فيه للنفحات الإلهية رجاء الحصول على كبير الغفران والفوز بأعالي الجنان  ومما جاء في فضائله الزمانية أنه تفتح فيه أبواب الجنان وتغلق أبواب النيران وتصفد فيه الشياطين ومردة الجان فتهفوا النفوس راغبة في الهداية فتسعى مقبلة إلى الله بقلوب صافية لإتيان الطاعات والتسابق نحو فعل الخيرات واجتناب المعاصي وسائر المناهي الشرعية من المنكرات والموبقات .

ومما يتفرد به هذا الشهر الفضيل أن النفس تسخوا فيه بكبير العطيات فتتنوع التبرعات والهبات ممن حازوا على مقام أهل السبق والإحسان حيث يلتفت فيه بحق نحو المشاركة في بعض هموم الشرائح الاجتماعية الضعيفة التي تكابد شذف العيش وسائر أحوال العوز والعسر في غذاءها وكساءها على مدار العام وهي حالة تنتظم قطاع اجتماعي عريض وتلك من سنن الله الماضية التي لا يخلوا منها زمان أو مكان منذ القدم ابتلاء لصبر العباد بالتقلب بين منزلة العسر واليسر ولعل في تشريع عبادة الصوم المتضمنة لذوق اللوعة الحرى من العطش والجوع يوميا من طلوع الفجر الصادق إلى المغيب لمدة شهر كامل من كل عام وإلزام كافة المستويات الاجتماعية بها أداءً عدا أهل الأعذار الذين لا يطيقونه فكان البدل في حقهم الإطعام رحمة بهم ورفعا للحرج وتوسعة على العباد من الفقراء والمساكين، وتلك التشريعات الجليلة تندرج في سياق الجرعات العلاجية لبعض مظاهر كسر شح النفس والخروج عن دائرة المنع والبخل التي تظل عند البعض سجية فسعت الشريعة الإسلامية للتقليل منها في الوسط الإسلامي عبر تشريعات عديدة  وتوجيهات كريمة توصل العباد لمدارج الكمال ، وفي الصوم دلالة بالغة على ضرورة أهمية الالتفاتة الواعية نحو ما يعانيه بعض من قدر عليه رزقه من أفراد المجتمع  مما يترتب عليه بلوغ حالة من التكامل والتكافل والتواصي بالمرحمة المأمور بشيوعها شرعا وعرفا بين الجميع . والصّوم من العبادات البدنيَّة التّي كلف بها الشارع العباد وضمن فيه العديد من المنافع البدنيَّة والصّحيَّة مما يعود على الفرد في حياته بالخير العميم وهو عبادة مشروعة شكرا لله الواهب لنعمة البدن والمتفضل بوافر الصحة وكمال النعم وحصول العافية والبراءة من السقم ومن فوائد الصّوم تدريب الإرادة الإنسانيَّة على خصال الخير من العزم والقدرة لامتلاك فضيلة قوة التّرفع على حب الذات والخضوع للشهوات حتى في دنيا المباحات والصّيام من أهم العوامل المساعدة في الوقايَّة من الداء وهو يساهم في علاج كثير من الأمراض الحسيَّة والمعنويَّة وهو من أعظم بواعث الإيمان والتّقوى في النّفوس وكفى بها غايَّة هادية ونعمة عظيمة بادية يسعى لبلوغ مقامها أهل الصدق والصبر من عباد الله المؤمنين قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) } [البقرة / 183 – 186]  والرشد هو إصابة وجه الحقيقة وهو عين السداد والهداية للسير في الاتجاه الصحيح فإن هيأ الله لعبده أسباب الرشد فقد سهل له سبيل الوصول للنجاح الدنيوي والفلاح الأخروي نسأل الله أن يجعل لنا في كل أحوالنا يسرا ويهيئ لنا من أمرنا رشدا . ولما كان الصوم من العبادات الدقيقة التي لا يطلع على حقيقتها ومكنون كنهها أحد إلا الله كبر شأنها وعظمت مثوبتها  ف(عن أبي صَالِحٍ الزَّيَّاتِ أَنَّهُ سمع أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يقول : قال: رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال الله : كُلُّ عَمَلِ بن آدَمَ له إلا الصِّيَامَ فإنه لي وأنا أَجْزِي بِهِ وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ وإذا كان يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فلا يَرْفُثْ ولا يَصْخَبْ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أو قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إني امْرُؤٌ صَائِمٌ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيده لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ من رِيحِ الْمِسْكِ لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إذا أَفْطَرَ فَرِحَ وإذا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ ) البخاري : 2 / 673.  اللهم أشملنا بواسع رحمتك هداية وجليل رشدك استقامة وبوافر عافيتك صحة في الأبدان وبعظيم غفرانك تجاوزا وبلغنا بفضلك منازل أهل الصدق والرشد وألزمنا بكريم جودك كلمة التقوى.  وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=41787

نشرت بواسطة في يونيو 6 2017 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

2 تعليقات لـ “مغزى العبادات في شرعة الإسلام”

  1. عبدالله

    يا ابو مصطفى — تحياتي لك

    هنالك من الصحابة من بشرهم الله بالجنية وهم أحياء في الدنيا أي حكم يوم القيامة تم لهم وهم في الدنيا — هنالك ايضا من كفار قريش من تم محاكمته من قبل الخالق وهو حي في الدنيا مثل أبو لهب وزوجته — لقد تم محاكمة هؤلاء وهم في الدنيا من قبل خالقهم وهذا الحكم سوف لن يتغير يوم القيامة عندما تقف جميع الخلائق أمام خالقها للحكم عليها

    يا حبيبي ابو مصطفى أبو لهب وزجته لعنهم الله وتوعدهم بالنار فماذا تريد من المسلمين أن يفعلوا سوى الرضى بحكم حكمه الله؟ هل تريد منا أن نترحم على من لعنه الله وتوعده بالنار؟

    والحكم على أبو لهب وزوجته لا يختلف عن الحكم على ابن سيدنا نوح وزوجة نبي الله لوط وفرعون — وإلى آخره

    لقد اخبرنا المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى بأن من كان آخر كلامه في الدنيا “لا إله إلا الله” دخل الجنية —— في الختام أدعو الله في هذا الشهر الكريم أن يجعل آخر كلامك في الدنيا “لا إله إلا الله”

  2. Abu Al Mustafa

    بِسمِ اللَّهِ الرَّحمٰنِ الرَّحيمِ

    . تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ
    . مَآ أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُۥ وَمَا كَسَبَ
    . سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ
    . وَٱمْرَأَتُهُۥ حَمَّالَةَ ٱلْحَطَبِ
    . فِى جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍۭ

    To the author can you explain how many times a muslim repeats this verses during prayer. How can someone get closer to his/her diety by cursing a human being who lived 1400 years ago!

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010