فيلم اريتريا ما بعد الحرب واوهام التعايش السلمي

فرجت: الافتتاحية

اسئلة كثيرة حاصرتنا ونحن نتابع احداث الفيلم الوثائقي  الذي حمل اسم  (اريتريا ما بعد الحرب )  والذي بث علي قتاة الجزيرة  الاسبوع قبل الماضي,, وقد
استوقفنا  عنوانه الذي لا شك في انه كبير, يدعوك للحرص علي مشاهدته , لقد توقعنا الكثير ,  ولكنه جاء دون المستوي المتوقع او علي الاقل بالنسبة لنا , وربما كان مخيبا كذلك لامال الكثير ممن شاهدوه , وبخاصة الاريتريين منهم , لابتعاده عن اسمه المعلن واستغراقه في الماضي  بدلا من الحاضر  والمستقبل , وتجنبه الدخول  في تفاصيل الواقع  السياسي , والاقتصادي , والاجتماعي  المؤلم , الذي لا يزال  يؤرقنا ويسبب لنا الصداع و الهيستيريا  الوطنية  ..  خلافا للسمة الدعائية  التي يمكن قراءتها بكل سهولة من بين ثنايا المشاهد واللقطات  المكررة  والشخصيات المتحدثة  , التي تم اختيارها بعناية , ما يوحي بأن هناك رسائل سياسية مبطنة يراد ايصالها للمشاهد , شأنها ان تترك انطباعا مغايرا لما هو معروف عن الهوية الوطنية , وربما كانت ايضا محاولة يائسة  للنفخ في صورة النظام  الذي يعيش تحت ظروف استثنائية  امام الراي العام ,  ومنحه قوة هو في حاجة اليها ولو بأستعراض امجاده القديمة , في وقت يحاصره  فيه السقوط من كل جانب .

والفيلم قديم عمره يتجاوز الاربعة سنوات  علي الارجح , ومن انتاج وكالة اعلامية خاصة , استطاعت فيما بعد من بيعه لقناة الجزيرة الوثائقية ,  وتم تصويره في الفترة التي كان يشغل فيها السيد عثمان صالح وزارة التعليم , وفقا للصفة التي ظهر بها في الفيلم , الذي لم يكن مترابطا في مشاهده , او متسلسلا في الاحداث التي تناولها …  فكان يتنقل بالمشاهد من جولة حول تاريخ البنايات القديمة في مدينة اسمرا , الي مشاهد تطعيم اطفال المدارس باحدي قري الساحل .. ومن حديث عن تمكن الجبهة الشعبية لتحرير اريتريا  من اقامة مصانع تحت الارض وهي في الثورة , الي المعجزة التي حققتها وهي في الدولة , من بعث الروح  في القطار الذي يربط مدينة اسمرا بمصوع , بعد موت دام لاكثر من نصف قرن , وهو الذي كان شاهدا علي عنصرية المستعمر الايطالي واضطهاده للاريتريين….

وتكمن خطورة هذا الفيلم  في تجاهله التام و المتعمد للعنصر الاسلامي في اريتريا  , والذي تصل نسبته الي النصف  حسب ما ذكر في تقرير الفيلم , في حين لم نشاهد ما يعزز تلك النسبة المفترضة , لا من خلال المشاهد واللقطات  , او حتي الشخصيات التي تحدثت في سياق الفيلم الذي ركز باكثر مما يجب , علي الكنائس وتفاصيل ما يحدث داخلها , من قساوسة  يقيمون الصلوات , واطفال  ينشدون , ثم ينتقل بالكاميرا الي مشاهد من احتفال ديني باحد الكنائس , تظهر مجموعة من الاطفال , بملابسهم المزركشة , ذات الالوان الفاقعة  , يتقدمون القساوسة , وهم يحملون صلبانا ضخمة ذهبية اللون و بجانبها العلم الاريتري , وفي الخلف نساء بذيهن الابيض , يرمين  بالفيشار او ( العمبابا ) علي رؤوس رجال الكنيسة …. في حين لم يجد الفيلم ما يعبر به عن مسلمي اريتريا  الا بلقطة عابرة  لمسجد الخلفاء الراشدين الذي يعود تاريخه لاكثر من مئة عام  , ومن حوله رجال يفترشون الارض , وجوههم هائمة , باهتة , يكسوها الحزن واليأس من ضنك العيش , ومشهد اخر من الصحراء لمجموعة من نساء الرشايدة الرحل  وهن يجمعن الحطب ….. ولك ان تتساءل بعد ذلك عن نوع الانطباع الذي سيخرج  به المشاهد عن هوية الشعب الاريتري.

وقد كان متوقعاعندما تعرض الفيلم لقضية التعايش السلمي , ان يستطلع في تقريره  راي الجانبين المسيحي والمسلم , كما تقتضيه اصول  واخلاقيات المهنة الصحفية  , ولكنه اكتفي بالحديث مع رجل دين مسيحي ,,  جاءت كلماته مقتضبة ,,  ومترددة , مغلفة بتعبيرات النفاق والمجاملة  . .. وكأن الفيلم محاولة ليس لمحو الاخر وتقزيمه فقط , وانما لاختزال الهوية الوطنية  في عنصر عرقي واحد  وطائفة واحدة ايضا …..

ان هناك اكثر من دليل يدفعنا للقول بمشاركة النظام سوي بالتمويل  والاعداد , او بفرضه شروطا مسبقة احترمتها الوكالة المنتجة ليخرج الفيلم بهذه الصورة  الدعائية السمجة , وربما من المفيد الاشارة هنا , الي حرص وزارة الاعلام الاريترية  المسبق , واضطلاعها بمهمة الترويج والدعاية لهذا الفيلم  عبر موقعها علي شبكة الانترنت ( شابييت)  والتذكير بموعد بثه علي قناة الجزيرة  , باضافة تعليق صغير لا معني له يصف الفيلم بانه يعكس التعايش السلمي في اريتريا

وهو مفهوم  وهمي  يصعب استيعابه , و يبدو غامضا كاللغز, يستعمله النظام بمناسبة وبدونها , ذلك  في الوقت الذي باتت فيه الفئة الحاكمة , مقتنعة بان  الرب قد وهبها هذه الارض لها وحدها , ومن ثم عليها سحق وقهر كل من يعترض سببيلها ,,,  وعلينا الاعتراف صراحة بالاتساع المضطرد للهوة بين المسلمين والمسيحيين , والذي تسببت فيه السلطة الحاكمة بفعل الممارسات المجحفة  , وسياسة التمكين  المفضوحة , التي تنتهجها لصالح فئة بعينها بغرض الاستئثار بالحكم ,  مما رسخ المشاعر السالبة بين افراد المجتمع , واثر بدوره علي قيم المحبة والتسامح التي كانت سائدة بين الناس في الماضي  ..

ان تحقيق التعايش السلمي في مجتمع تنعدم فيه العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات , لهو من الامور الغير ممكنة ان لم تكن مستحيلة ,لانها الاساس الذي يضمن السلم والاستقرار في المجتمع , ومن ثم التعايش  …. وعلي العكس من ذلك فعندما تنتفي العدالة ويختل التوازن , فأن الحديث عن التعايش السلمي هنا يكون فاقدا لمعناه  , ويصبح التعايش مع الامر الواقع سلميا , هو التفسير الاكثر قربا لعقلية  من هم في السلطة . . فهم يريدون منا ان نتعايش مع سلب الحقوق , والقسمة الظالمة في توزيع الثروة والسلطة , وان نتقبل التقزيم و الاهانة  والتهميش  والقهر , وان نشكرهم علي سرقة التاريخ وتشويهه , وان نتسامح معهم عندما  ننشل  من الجيب الايمن نستدير ونمد لهم الجيب الايسر …

ان فيلم ( اريتريا ما بعد الحرب ) كان  يحمل في احشائه رسالة سياسية , تغافلت عنها قناة الجزيرة و التي تدعي  دفاعها عن الحريات العامة وحقوق الانسان , وتجاهلت معاناة المسلمين في اريتريا  الذين يئنون تحت وطأة  نظام حكم طائفي يبتلع كل ما هو اسلامي او عربي يتحرك امامه دون ان يكون جائعا ,,,  ولكن يبدو ان في الاعماق دائما خبايا وخبايا ,,  ربما تكون محاولة من جانب الجزيرة العربية لتطييب خاطر الحكومة الاريترية  , وستر عورة رئيسها التي كشفتها قناة الجزيرة الانجليزية , في الحوار الشجاع الذي اجرته المذيعة كريستينا والرئيس اسياس افورقي , والذي فقد فيه الاخير اعصابه وهيبته … ربما  ,,  ولكن ذلك لا ينفي نجاح النظام الاريتري في استغلال قناة الجزيرة  هذه المرة  في الدعاية لنفسه

انه عالم مفتون بالقوة ,, تحركه العلاقات التحتية ,, لايحترم الضعفاء والمترددين ,, ولا يشفق علي المذبوحين….

المحرر

farajat@hotmail.com

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=3252

نشرت بواسطة في نوفمبر 17 2011 في صفحة كلمة التحرير. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010